لماذا يخاف أهل الدين من السؤال؟

دل بوجود آثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على ثبوت أوصافه، وبوجود أوصافه على وجود ذاته، إذ محال أن يقوم الوصف بنفسه.

 الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري - الحكم العطائية

لماذا يخاف أهل الدين من السؤال؟

26.06.2016

هذه المقالة نشرت للمرة الأولى على موقع مصر العربية بتاريخ 06 يوليو 2015.

يسأل سائل:

ورثنا الدين من آبائنا فصِرنا مثلهم. مسلمين لأنهم مسلمون. فلما كبرنا أردنا أن نفكر، ثارت في نفوسنا شكوك، تحركت مشاعرنا بالقلق، وجال في عقولنا التساؤل، فأردنا أن نسأل فلم نجد أحدا يجيب. كلما تحركت ألسنتنا بالاستفسار والمناقشة إذا بقائل يقول: (استغفِر الله)، (هذه وساوس من الشيطان)، (هذا كفر)، الخ.

لماذا يخاف أهل الدين من السؤال؟ هل الدين حجته ضعيفة لكي يخاف أهله من السؤال؟ هل هذا الصرح القديم التليد يهتز لتساؤل دار في عقل شاب أو مراهق؟ لماذا يفضلون التقليد؟ لماذا خلق الله لنا عقولا فإذا جئنا نستخدمها قالوا لنا: أنتم تعصون الله؟

…………

لست ضليعا في الأفلام السينمائية، لكن بحكم أن لي أصدقاءً يعملون في كتابة السيناريو، أعرف أن لكل فيلم فكرة أساسية، وربما ينص كاتب السيناريو عليها في أثناء الحوار. كلما شاهدت فيلما حاولت استكشاف هذه الفكرة الأساسية. في الجزء الأول من فيلم (سبايدر مان) كانت تلك الفكرة واضحة في الكلمة التي قالها (أنكل بِن) لبطل الفيلم سبايدر مان حينما بدأت تظهر عليه قوى خارقة. إنها القول المنسوب للفيلسوف الفرنسي فولتير:

With great power, comes great responsibility

مع القوة الشديدة، تأتي المسئولية الشديدة

انظر حولك في الوجود.

عالم واسع من الأشخاص، والأشياء، والأفكار. انظر تجد أجساما وأوصافا قامت بهذه الأجسام كالحركة والسكون، والأجسام منها ما هو ساكن لا يتحرك ولا روح فيه كالأحجار والجبال، ومنها ما خُصّ بالحياة والنمو وهي الكائنات الحيّة .. النباتات والحيوانات. ثم تجد من بين الكائنات الحيّة تلك التي اختُصّت بالإرادة والحركة ومستوى من الإدراك وهي الحيوانات.

ثم تأمّل.. ما الفرق بين الإنسان وسائر أنواع الحيوانات؟

كلاهما يأكل، وكلاهما يشرب، وكلاهما ينمو، وكلاهما يمارس الجنس ويتكاثر، لكن الفرق المميّز الأساسي بين الإنسان وبين سائر أنواع الجنس الحيواني هو الفرق في القوة العقلية. لذلك عرّفوا الإنسان في كتب المنطق فقالوا: (الإنسان حيوان ناطق) ناطق: أي مُفكِّر.

………..

وهنا يقول قائل: نحن ندرك قيمة العقل. ولكن المشكلة في أهل الدين. إنهم لا يحبون العقل ولا يحبون العلم. ذلك أن الدين إنما نشأ ليُسكِت العلم والعقل. فالإنسان ينشأ في هذا العالم وحوله بيئة معينة، تعطي له أجوبة دينية مسكتة. ولولا هذا الجواب لظل عقله أبدا يعمل وينتج ويحاول أن يحل المشكلات. لكن الدين يقدّم له دائما الجواب الجاهز: (هذه إرادة الله). وأكبر دليل على هذا أن العلم لم يتقدّم ويتطور ويحقق نتائج مذهلة إلا عندما ضَعُف الدين، والأوضاع السياسية لم تتحسن إلا بعد أن انتهى الدين في الحياة العامة وأصبح محصورا في دُور العبادة. الدين يعني التسليم، والعلم يعني الدليل. الدين يحتاج إلى نفس مستعدة لقبول ما يُملى عليها، والعلم لا يبنى إلا على نفس ناقدة متسائلة. فالدين في النهاية ليس إلا اختيارا شخصيا، يختار الإنسان أشياءَ تُريـحُه وتحل إشكالاته النفسية. فليس من حق أحد أن يقول: هذا الدين حق وهذا الدين باطل. لأن الأمر راجع إلى اختيار الإنسان.

انتهى قول القائل.

نقول: قضية الصراع بين من يطلب الدليل في مقابل من يريد التسليم الأعمى هي قضية كبيرة موجودة في تاريخ البشر ، في شتى المذاهب والأديان. وهناك صراع دائم بين الباحث العاقل الحر الذي يمشي وراء عقله وبين بعض كهنة الدين الذين يقولون له: (أغلق عينيك وآمن. هذه إرادة الله).

لكن نحن كمسلمون ندّعي دعوى. نقول: (الإسلام دين مختلفٌ عن كل الأديان الموجودة حاليا على وجه الأرض. ليس فقط في كونه الدين الحق، ولكن هناك اختلاف آخر في نفس تعريفنا للدين). فما هو التعريف للدين؟ وما وجه الدلالة على ما نقول من نصوص الإسلام نفسه؟

يرى الكثير من الباحثين في الفلسفة، وعلم النفس، والاجتماع، أن الإنسان إذا وجد أسئلة ولم يجد لها جوابا، اخترع لها ما يجيب عليها. ومع تطور المجتمعات وتطور البشر، زادت المسائل تعقيدا، فباستقرار الإنسان في المدينة، وجد فراغا عن الصيد والبحث عن الطعام، ليفكر في الأسئلة التي لا يجد لها أجوبة. فلما عجز عن إيجاد تفسير، لجأ إلى الغيب لتفسير الواقع، وإيجاد الأجوبة على ما يجهل، وكان ذلك من أسباب نشأة الأديان.

والدين الإسلامي كذلك يجد المرء فيه أجوبة على الكثير من الأسئلة الوجودية المهمة، ومع هذا فإننا نقول إنه ليس مجرد معتقدات مُخترعة للجواب على هذه الأسئلة، بل إنه:

وضعي إلهي سائقٌ ذوي العقول السليمة لما فيه الخير لهم بالذات. فنحن ندّعي أنه تنزيل من الله، لا نتاج تطور البشر واختراعهم، وأنه امتداد لأديان أخرى ورسالات سبقته كانت كذلك تنزيلا من الله وليست من وضع البشر.

وهذا دعاوى يدّعيها المسلم، وهي تحتاج إلى دليل. وقد جاء الإسلام آمرا لنا بأن نقيم اعتقادنا على أدلة يقينية.

فدين الإسلام هو: اعتقاد، وشريعة (عبادات ومعاملات)، وأخلاق.

فما هو الاعتقاد الذي يجب أن نؤُمن به ؟ وما هو الإيمان المطلوب عندنا في الدين؟

الإيمان الطلوب شرعا هو: (التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل). هذا التعريف موجود في آلاف المصادر الإسلامية وهو مستفاد من النصوص القرآنية والحديثية. في التعريف أربعة أركان مهمة:

  1. التصديق: وهو شيء يحصل في النفس بأن تعلم أمرا ما وتوافق عليه وتذعن له وتقبله،
  2. الجازم: فيجب أن يكون هذا الاعتقاد في النفس أكيدا ويقينيا ، لا شك فيه ولا ارتياب،  بحيث لا يُبقي في النفس أي تكذيب إلا وقد زال.
  3. المطابق للواقع: وهذا قيد مهم جدا. فنحن كمسلمين مأمورون أن نعتقد بالأشياء الحقيقية لسبب أنها حقيقية. فهدف المسلم أن يصل إلى الحقيقة لكي يعتقدها. فاعتقاده تابع للحقيقة وليس مُنشِئًا للحقيقة. فنحن لا نعتقد فرضيات دينية ثم نبحث لها عما يبررها، بل نحن نمشي وراء مصادر المعرفة فإذا وجدنا حقيقة ثابتة بالدليل اعتقدناها.
  4. عن دليل: وهذا شرط أساسي في الإيمان. فيجب على كل مكلف أن يكون إيمانه عن دليل وحجة ، وإلا لو كان عن غير دليل كان العبد عاصيا آثما ، بل إن بعض العلماء جعل الدليل شرطا في صحة الإيمان بمعنى أن الذي يُقلد في صحة دينه بغير دليل البتة – ولو كان ذلك الدليل بسيطا إجماليا – فهو ليس بمؤمن أصلا لأنه لا يتصور منه القطع والجزم.

والصواب الذي عليه جمهور أهل العلم أنه مؤمن لكنه عاصٍ بتركه للنظر وللتفكير والاستدلال. لكن وقوع هذا الخلاف يعكس مركزية الدليل في مفهوم الإيمان عندنا.

وهذا في مقابل بعض الديانات والمذاهب الفلسفية التي تجعل : الإيمان في مقابل الدليل … فيكون هناك أهل الإيمان الذين يصدقون تقليدا ، وهناك أهل الدليل الذي لا يبنون معتقداتهم ومعارفهم إلا على الدليل .

وهذا عندنا ليس كذلك ، فإننا كما سبق نشترط الدليل ليُبني عليه الإيمان ، وسيأتي بيان بعض أدلة ذلك من النصوص الشرعية . فالإيمان الذي هو أهم المطالب الدينية، وعماد الإسلام، وما عليه مدار النجاة والفوز يوم القيامة لا يُقبل من المسلم أن يقلِّد فيه غيره.

ولا يستقيم إلا بالدليل والبرهان واتباع العقل في أصوله. فإذا وصل الإنسان بعقله إلى أنَّ الله موجودٌ، وأنه واحد متصفٌ بالقدرة التامة والعلم المحيط والإرادة الشاملة، وأنه أرسل الأنبياء برسالات صادقة وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلّم، فيجب عليه حينئذ أن يقبل الأحكام الدينية. قبوله لها حينئذ ليس قبولا أعمى، بل هو قبولٌ مبصِر مؤيَّد بالدليل العقلي.

فأشرف العلم وأفضله هو الاعتقاد الصحيح، بالجواب على الأسئلة الثلاثة الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني وهي:

من أين؟

إلى أين؟

ولماذا؟

وهذه مجالها العقيدة. ونحن مأمورون شرعا ألا نقلّد أحدا في الاعتقاد، وأن يقتنع كل واحد منا بالعقائد الدينية بأدلتها اليقينية بما يناسب عقله.

ومن أشهر ما يحفظه طلبة العلم ويدرسه في المدارس الشرعية عبارة الإمامِ إبراهيمَ اللقاني الـمالكي ( ت 1041هـ ) في منظومته ” جوهرة التوحيد ” التي هي معتمد تدريس علم العقيدة الإسلامية في الأزهر الشريف وغيرها من المدارس السنية حول العالم لسنوات طويلة:

إذ كلُّ من قلَّد في التّوحيدِ ** إيمانُهُ لم يخلُ من ترديدِ

فلا يُقبل في أهم المسائل الدينية على الإطلاق وهو: الإيمان بالله ورسله ، الذي هو التكليف الأعظم الذي كلف الله به البشر في هذه الحياة الدنيا ، إيمانا ضعيفا مبنيا على التقليد تحرّكه رياح الشك يمينا ويسارا.

هل تعلمون ما هو أول واجب على الإنسان في ديننا؟ إنه التفكير.

قال العلماء أن أول واجب على الإنسان هو النظر، أي التأمل والتفكر للوصول إلى معرفة الله عز وجل. فوا عجبا من زمنٍ يكون أولُ واجبٍ أوجبه الله على بني آدم محلَّ انتقادٍ ومجال كَبتٍ من بعض المسلمين!

وقد وهبنا الله تعالى العقل لنفكر به في أمورنا ، ونصل إلى معرفته والإيمان به باستعماله ، فالعقلُ هو مناط التكليفِ،  فلا يكون الإنسان مكلّفا بأي شيء إلا إذا كان عاقلا، ثم أوجب تعالى على كل مكلف إعمال عقله في الوصول إلى العقائد الدينية.

أين ما يشهد لذلك من النصوص الدينية؟ هذه بعضها:

يقول الله تعالى في ذم أولئك الذين يأخذون عقائدهم بالتقليد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة:170)،

ويقول: (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا ووَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ) (الزخرف: 23-24)

ويقول تعالى آمرا الناس بإعمالِ العقلِ: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)، (أَفَلا يَنْظُرُونَ)، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا)، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وانظروا إلى هذه الآية العجيبة التي تشير إلى كيفية بناء الإيمان في النفوس: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) (آل عمران: 190-191)

{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ( يونس: 101)

وأين نحن من هذا الأمر الصريح (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، والعلم هو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل والأمر هنا هو أمر يفيد الوجوب ، فالآية تقول: عليك أن تصل إلى إدراك جازم مطابق للواقع عن دليل أنه لا إله إلا الله.

فهذه آيات صريحة في بيان أهمية العقل ، آمرة المكلفين بترك التقليد ، وإعمال العقل في الفكر والتدبر في خلق الله تعالى طالبة الأدلة اليقينية على وجود الله تعالى وتوحيده.

ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (مَا اكْتَسَبَ رَجُلٌ مَا اكْتَسَبَ مِثْلَ فَضْلِ عَقْلٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى هُدًى، وَيَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، وَمَا تَمَّ إِيمَانُ عَبْدٍ وَلا اسْتَقَامَ دِينُهُ حَتَّى يَكْمُلَ عَقْلُهُ).

ويقول الإمام الماوردي في أول كتابه (أدب الدنيا والدين): (اعلَم أنَّ لكُلِّ فَضيلةٍ أُسًّا وَلِكلِّ أدبٍ يَنبوعًا، وَأُسُّ الفضائل وَينبوعُ الآدابِ هو العقلُ الذي جعله اللَّهُ تعالى للدِينِ أَصلًا وَلِلدُنيا عِمَادًا، فأوجبَ الدينَ بكمالِهِ وجعَل الدُّنيا مُدبَّرَةً بِأَحْكَامه)

……….

هناك فيلم قديم شاهدته من سنوات طفولتي. يسمّى (الليلة الأخيرة). تستيقظ فيه البطلة لتجد نفسها وسط أناس لا تعرفهم، ينادونها باسم لا تعرفه، وتدخل في أحداث لا تدري كيف حصلت. ما أشبه كل واحد منّا بهذه السيدة. أنت قد وجدت نفسك ملقى به في هذا الوجود، ينبغي ألا تشغل نفسك بشيء سوى بهذه الأسئلة: (من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟)

كيف تبحث؟ كيف تجيب عن هذه الأسئلة؟ قد وهبك الله مصادر للمعرفة – وسنفرد لها مقالا لاحقا –  أهمها: الحواس الخمس، والخبر الصادق، والعقل الذي تميّزت به عن غيرك من الموجودات.

وقد طلب الله منك أن تبحث في هذه الحياة مصاحبا لنور العقل الذي يكشف لك عن الحقائق وعن الله سبحانه وصفاته العلى، وأن تتعرّف عليه، وأن يكون السؤال دافعا لك على مزيد من البحث والتأمل والتفكير والسؤال والحجاج والنقاش.

هناك قاعدة علمية عظيمة، هي دستور العلم، وأصله، وبنيانه. عليها أقام العقلاء كل مذاهبهم، وفي ضوئها سارت مسيرة العلم، ولذا كانت هذه القاعدة أصلا عظيما من أصول العلوم الإسلامية، في فروعها تسري هذه القاعدة سريان الماء في عود النبات، ومن منبع هذه القاعدة تنبع المسائل كما تنبع الأنهار من المنابع. هذه القاعدة تقول: (إن كنت ناقلا فالصحة، أو مُدّعيا فالدليل).

فلو رأيت إنسانا مسلما يأمرك بالتقليد وبترك العقل فاعلم أنه ليس حجة على الدين. فقد أوردنا نصوص القرآن الدالة على ما ذكرنا، وعلى هذا انعقد فهم المسلمين في أيام حضارتهم.

فلو تم لك الإيمان بدليله – وسنتعرّض لهذا بالتفصيل في المقالات المقبلة –  فمقتضى العقل أن تقبل أحكام الدين ولا تنازع في حق الإله في التكليف بعد أن ثبت لك بالعقل ألوهيته وعبوديتك، وأنه قد أمرك بهذه الأوامر.

فلا ينبغي أن تقول أبدا: (لو كان الإله يأمر بكذا فلن أؤمن به، أو لو كان الدين يأمر بكذا فهو دين باطل، أو لو كان الرسول فعل كذا مما أكرهه فهو ليس برسول). بل تنظر في أدلة وجود الله وأدلة صدق الرسول، فإذا أقنعك الدليل ، فينبغي عليك أن تتعلم شرع الله الذي أنزل ، ثم إذا تعلمته وتأكدت من أن القول الفلاني هو حكم الله تعالى وشرعه ، فيجب عليك التسليم لأحكامه. حتى لو خالفت أحكامه لضعف أو رغبة.. فلا ينبغي أن تنازع في أمره.

فلو قلت: أنا أصدق بما يقوله الرسول، ثم جيئ لك بكلامه، فقلت : لا أصدقه، فأنت متناقض.

نعم تبحث عن أدلة ثبوت هذا الكلام ، وهل هو فعلا قال كذا أم لم يقل، لكن إن ثبت لك أنه قال ذلك، وثبت لك قبلها بالعقل أن الله موجود وأنه أرسل النبي برسالة للناس، فينبغي أن تسلّم وتذعن. وحينها تكون قد اتبعت مقتضى العقل.

فهل رأيت عاقلا يبطل الأصل بفرعه؟ بل غايةُ ما يفعله إن ثبت عنده الأصل بالبراهين القطعية، ثم وجد فرعا يناقض الأصل، أن يستشكل ذلك الفرع، ويحاول فهمه، لا أن يجعله مبطلا لأصله الذي ثبت هو عنه.

فلو أردت من سؤالك: لماذا يقبل المسلمون عقيدتهم من غير دليل؟ فقد بيّنا أنه يجب على كل مكلف طلب أدلة الدين بالدليل ، وأن الإيمان عندنا لا يتحقق كاملا إلا بالدليل والعقل.

وإن أردت من سؤالك: لماذا يقبل المسلمون ما جاء به الرسول من غير مناقشته؟ فنقول: لأنه قد ثبت عندهم قطعا أنه رسول، أي مُخبِرٌ عن الله خالق الكون ومالك الملك بما أمر به، فينبغي عليهم قبوله والتسليم له بعد أن أوصلهم الدليل إلى معنى الرسالة ومعنى النبوّة.

وفي هذا المعنى يقول تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 33).

انظروا ماذا قالت الآية: وما كان (لمؤمن) ولا (مؤمنة). فأنت تتبع العقل وتنظر في الدليل حتى تتحقق بالإيمان، ثم تتبع العقل بقبول ما دل عليه الدليل وإن خالف هواك.

ويقول تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)، (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم)، (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، (لعلمه الذين يستنبطونه منهم). فطاعة الله لا تحصل إلا بعد أن تؤمن أنه (الله)، وطاعة الرسول لا تكون إلا بعد أن تؤمن أنه (رسول)، وطاعة العلماء وأصحاب التخصص لا تكون إلا بعد أن تقتنع أنهم علماء متخصصون. فالتسليم مقتضى العقل، لمن آمن بالعقل والدليل.

وهذا يحتاج إلى بحث: من هو هذا العالم؟ وهل طاعته واجبة؟ وهل قوله معصوم؟ وماذا لو أخطأ؟ هل يجب أن أقبل الأقوال التي أسمعها وأستشكلها؟ وماذا لو وجدت تعارضا بين أناس مختلفين وكلهم يدّعون العلم والدليل؟.. هذا وغيره فيه فروع كثيرة سنفردها في مقالات لاحقة بإذن الله.

والعلوم الدينية أبوابها مفتوحة لكل أحد إن كان متخصصا عالما بما يقول متمكنّا من أدوات الفهم اللغوية والمنطقية وغيرها. وحينئذ – إذا تكلّم عن علم وفهم – فكلامه مقبول حتى ولو خالف الجمهور. بل يحرم عليه أن يقلّد أحدا إلا ما قام عليه الدليل عنده.

فلا حَجر أصلا على أحدٍ في أن يجتهد في فهم النصوص ، طالما كان مؤهلا ذلك ، ويكون المرجع في الحكم على قول ورده هو الدليل والحجة ، فالكلام في فهم الدين علمٌ له قواعد متلقاة من الرسول عليه الصلاة والسلام، ونصوص الشرع ، وكما ذكرنا سيُفرد لهذا الموضوع مقالا .

وهذا وإن الله تعالى لو شاء لأوجب على كل المسلمين أن يكونوا علماء حتى يفهموا الدين ، ولتعطلت بذلك مصالح الناس ولعجز الكثير من الناس عن ذلك ، فرحمة منه وفضلا خفف الله عن المؤمنين ولم يوجب عليهم أن يجتهدوا في فهم أحكام الدين .. فأجاز لهم سؤال أهل العلم، وطلبه منهم.

فالدين : يأمر بالنظر والتأمل في أصوله التي قام عليها من الإيمان بوجود الله وصفاته، وصدق النبي.

ثم يأمر بالتوثق من صحة نسبة النصوص إليه بعد ذلك(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ) (الحجرات: 49)

ويأمر بالتفقه والتعلم بعد ذلك. وبيّن أن لذلك أسسا ومناهج سنفصّلها في المقالات التالية ، مع تناول الفرق بين علوم الدين ونفس التدين .

ولا مجال في أمر الدين إلا للعلم والنظر والفكر والدليل.

فلا يقبل من أحد قول إلا بناء على الدليل، لا تقديس لأحد ، ولا أحد حجة على الشرع، بل الشرع حجة على الجميع.

ولنذكر مرة أخرى تلك القاعدة العلمية التي سبق وأن أشرنا إليها، والتي يدرك حقيقتها كل من نهل من منابع العلم وغاص في بحوره: (لو كنت ناقلا فالصحة، أو مُدَّعِيَا فالدليل).

فالإسلام ليس وجهة نظر، أو رؤية شخصية لإنسان، بل هو مجموعة من العلوم قائمة في أصولها على الدليل العقلي، وفي فروعها على الأدلة النقلية والاستنباط منها .

ديننا متين، مؤسس على قواعد راسخة من الأدلة العقلية المنطقية، فلا يرهبنّك مجتمعٌ جُبل على التقليد، واعتاد أن يكبت غيره وإن لم يأمره الله أن يكبته، وتلذذ بالدعة وخمول الذهن. ولا يطفئنّ نورَ الحقيقة في قلبك شيوخٌ خوّفوا الناس من العقل لقصور عقولهم وقلة علمهم. مع أن أسلافهم من العلماء الكبار لم يكونوا كذلك، بل ملئوا الدنيا علما ومناظرة وجدلا وحجاجا.

امض في سبيل الله.. فالتفكير عبادة من أعظم العبادات وقربة من أعظم القربات.. ويكفي العقل شرفا أن أوصلنا إلى الله.(ربنا عِرفوه بالعقل)

خلاصة ما نريد قوله في هذا المقال: أن الإنسان يمتاز عن غيره من الكائنات بالعقل، وأن وجود العقل شرطٌ ليكون الإنسان مكلفا بالدين، وأن التقليد في العقائد (التي هي أساس الدين) لا يجوز، بل لابد لكل إنسان أن يؤسس إيمانه على الأدلة، وإلى هذا أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة. وأن التسليم لأحكام الدين هو تسليم مُبصر لا أعمى، يحصل بعد معرفة وجود الله وصدق نبيه بالأدلة فيسلم الإنسان للإله بعد أن يعرف أنه إله، وأنه لا حجر على أحد في البحث الديني طالما كان معه الأدوات اللغوية والعلمية المطلوبة لذلك، وأن القاعدة المستقرة في البحث العلمي الإسلامي: (إن كنت ناقلا فالصحة، أو مُدَّعِيَا فالدليل).