الدين ومفهومه

تصحيح العقيدة بالإيضاح والبيان، ثم تأييدها بالدليل والبرهان، من أعظم مقاصد الإيمان، وأكبر مفاتيح اليقين والعرفان، ومقاليد الفوز بالجنة والنجاة من النيران.

 الإمام أحمد زروق - اغتنام الفوائد في شرح قواعد العقائد.

الدين ومفهومه

26.06.2016

البسملة

 


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن البحث المتعلق بالدين من المجالات التي يكثر فيها وجوه النظر، وركيزته الأساسية تحديد مفهومه، حتى يتضح في معرض الحوار معنى جلي يدور حوله الكلام.

والدين فيما تقرر في مدونات التراث السني هو: وضع إلهي سائق لذوي العقول لما فيه الخير بالذات.

فالوضع يراد به الأحكام الموضوعة، أي هو جملة من المعارف المتعلقة بما وضعه الله وحكم به.

 فمنها ما تعلق بطلب التصديق بأخبار معينة والإذعان لها وهي مسائل الاعتقاد، وهذا النوع من الموضوعات الدينية يقصد الشارع من أتباعه الخضوع لها على أساس حقيتها وثبوتها في نفس الأمر. ومثالها الإقرار بوجود الله وصفاته، ومشاهد القيامة، وأصل ثبوت الحل والحرمة لأفعال المكلفين.

ومنها ما هو طلب أفعال وتروك من المتدين، وهي مسائل الفقه المتعلقة بكيفيات العمل، ويدخل فيها أعمال القلوب، كملازمة التواضع وترك الرياء والعجب وغيرها من مسائل الأخلاق[i]. فهذا القسم يقصد به العمل لا مجرد الإذعان.

ومن هنا فإن البحث في الدين يتفرع منه نظران:

الأول: النظر في ثبوت حقية دين ما.

الثاني: ثبوت حكم معين للدين محل البحث.

ولا تلازم بين البحثين، بل لا يترتب أحدهما على الآخر.

وهذه مسـألة يحسن تجليتها، وحاصلها إن كثيرا من المسائل ينتقل فيها من ثبوت نسبتها للدين إلى كون ذلك قادحا في حقيته أو مثبتا لها، دون التأمل في واسطة الانتقال، وهو بحث ثالث مستفيض.

ثم أمر آخر، وهو أن ثبوت حقية الدين – من حيث كوننا مسلمين- فرض على كل مكلف وصلته الدعوة، لا يعذر بالجهل به من سلم من عوارض أهلية التكليف كالجنون أو الجهل بأن لم يسمع بالدعوة أصلا[1].

أما البحث في ثبوت حكم معين للدين، فليس ذلك عاما في المكلفين، بل يتعلق بمراتب الأحكام نفسها من الدين، فمنها ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنها ما دون ذلك.

والذي يختص به هذا المقال هو النظر الأول، ثبوت حقية الدين[2].

والكلام فيه على مقدمات، نجملها ههنا ثم نتبعها بتفصيل لاحق بإذن الله تعالى:

المقدمة الأولى:

أن الدين منسوب للإله، فلا جرم أن النظر الأول هو في معرفة الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بمصطلح ( ما يتوقف ثبوت السمع عليه).

فنثبت إلها عالما مريدا قادرا.

هذا هو القدر الذي لابد منه في أول الأمر ليتأدى منه لما بعده.

المقدمة الثانية:

النظر في كيف بلغنا حكم الغيب، من لدن الإله.

فليس ذلك مما يمكن إدراكه بمقتضى الاكتساب البشري، بل لابد من تعليم.

ثم هذا يكون للخاصة – وهم الأنبياء والرسل- بالوحي، ويكون لعامة الناس بخبر الرسول الصادق.

فينبغي ههنا البحث عن الفاصل بين هذين النوعين من المخاطبين بحكم الإله، وما المقدار المميز بينهما، وما هو الذي يجعلنا نصدق المدعي للنبوة.

وهو بحث المعجزة.

المقدمة الثالثة:

بعد ثبوت الإله، والواسطة التي حصل لها التعليم بالوحي، وثبت صدقها، يأتي البحث الثالث في مطلق ما ثبت من الأحكام.

وهذا ليس بعينه الجهة الثانية التي أرجأنا النظر فيها، بل هو من ضرورة ثبوت الدين أن يكون مشتملا على مسائل خوطب بها الناس. فالنظر ههنا راجع لإجمال لا تفصيل.

وهذا القدر لا يتحقق الدين في نفسه بدونه، بله أن نثبت تحقق الدين في نفس الأمر.

وهو يتعلق بالنظر في حال المشافه للنبي، وأمره واضح جلي، لرجوعه إلى حكم الحواس[3].

ثم النظر في حال من لم يره وطريق وصول التعليم من النبي إلى القرون اللاحقة والأقطار البعيدة.

وهذا بحث في الأخبار متواترها وآحادها، قطعيها وظنيها.

وبهذه المقدمات الثلاث يتم النظر في حقية الدين، من حيث هو في نفس الأمر، ومن حيث تقرره في نفس المكلف بعد بلوغه إليه وثبوته عنده إجمالا.

وسنفرد كل مقدمة بمقالة مفردة أو أكثر بحسب ما يقتضيه البحث، ويؤدي إليه النظر.

[1]  سنفرد مقالا بإذن الله تعالى لمعنى بلوغ الدعوة وكلام العلماء في ضابط ما يجصل التكليف به منها.

[2]  سنعتمد ههنا الخطاب السني الأشعري، قصدا للتلخيص وترك التوسع المضر بمقصد البيان.

[3]  نعم، قد نتعرض حينذاك لشبه السوفسطائية المنكرين لحكم الحواس، أو دعاوى التخييل والسحر.

[i]
قضية الأخلاق ودخولها ضمن دائرة التكليف، وتناول الإرادة لها مبحث مستقل نأمل أن نكتب فيه ضمن المدونة لاحقا.